فصل: الشاهد السادس والتسعون بعد الأربعمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الحادي والتسعون بعد الأربعمائة

وهو من شواهد س‏:‏

كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ *** إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل

على أن جر التمييز مع الفصل بالجملة، لا يجيزه إلا الفراء، فيجوز عنده خفض فضلاً‏.‏ وأما غيره فيوجب نصبه كما في البيت‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وقال الخليل‏:‏ إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء استغنى عليه السكوت، ولم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونه بمنزلة اسم منون، لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور؛ لأن المجرور داخلٌ في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة‏.‏ والاسم المنون قد يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول‏:‏ هذا ضاربٌ بك زيداً، ولا تقول هذا ضاربٌ بك زيدٍ‏.‏ قال القطامي‏:‏

كم نالني منهم فضلاً البيت

وإن شاء رفع، فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالني، كقولك‏:‏ كم قد أتاني زيد، فزيد‏:‏ فاعل وكم‏:‏ مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيد من المرار‏.‏ اه‏.‏ قيل‏:‏ روى فضلاً بالجر أيضاً‏.‏ فكم على النصب والجر مبتدأ، وجملة‏:‏ نالني خبره، وفاعله ضمير كم‏.‏ وعلى الرفع ظرف لنالني كما قال سيبويه‏.‏ وزعم العيني أن كم مع النصب ظرف زمان، تقديره‏:‏ كم مرة وكم يوماً، وجملة نالني منهم جملة معترضة بين كم ومميزها، وهو فضلاً‏.‏ هذا كلامه‏.‏ ولا يخفى فساده؛ إذ جعل المميز محذوفاً مع أن مذكور‏.‏ ولا يصح جعل جملة نالني اعتراضية، إذ لا فاعل للفعل حينئذ‏.‏ وقوله‏:‏ على عدم، أي‏:‏ مع عدم، متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء‏.‏ كذا قال ابن الحاجب في أماليه عن ابن برهان‏.‏ وزعم العيني أنه متعلق بنالني‏.‏ وهو فاسدٌ يدرك بالتأمل‏.‏ وأفسد منه قول ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل‏:‏ قوله‏:‏ على عدم، حال من الياء، وعامله نالني، ويجوز أن يعمل فيه فضل المصدر على أنه مفعول به‏.‏ والعدم، بفتحتين، والعدم، بضم فسكون، كلاهما بمعنى الفقر والاحتياج‏.‏ ومنهم متعلق بنالني‏.‏ وقال ابن المستوفي، يجوز أن يكون موضع منهم النصب على الحال صفة لفضل مقدماً عليه، ويجوز أن يكون من قيه مبنياً للجنس ويعمل فيه نالني‏.‏ وهذا خطأ فإن من البيانية مع مجرورها تتعلق بمحذوف على أنه حال‏.‏ والفضل‏:‏ الخير والإنعام، وجملة أحتمل في محل نصب خبر كاد وهو بالحاء المهملة‏.‏ قال شارح ديوان القطامي‏:‏ أي‏:‏ لم يكن لي حمولةٌ أحتمل عليها‏.‏ والحمولة، بالفتح، قال صاحب المصباح‏:‏ هو البعير يحمل عليه، وقد يستعمل في الفرس والبغل والحمار‏.‏ اه‏.‏ فمعنى احتمل‏:‏ أتخذ حمولة‏.‏ وقال الأعلم‏:‏ قوله‏:‏ إذ لا أكاد إلخ، أي‏:‏ حين بلغ مني الجهد وسوء الحال إلى أن لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق، ضعفاً وفقراً‏.‏ ويروى‏:‏ أجتمل بالجيم، أي‏:‏ أجمع العظام لأخرج ودكها، وأتعلل به، والجميل‏:‏ الودك‏.‏ اه‏.‏ ولم يذكر أحدٌ رواية الجيم من اجتملت الشحم، إذا أذبته، وكذا جملته أجمله جملاً، وربما قالوا‏:‏ أجملته، حكاه أبو عبيدٍ‏.‏ ورأيت في بعض الحواشي أنه روي‏:‏ أحتمل بالحاء المهملة من الاحتمال، وما أظنه صحيحاً‏.‏ وزعم بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل أن الرواية احتول ولم يذكر غيرها‏.‏ وقال‏:‏ أحتول من الحيلة، وأصلها حولة قلبت الواو ياء كما في ميزان‏.‏ وكان الوجه أحتال، إلا أنه جاء على الأصل المرفوض‏.‏ هذا كلامه ولم أرها لغيره‏.‏ وقوله‏:‏ إذ لا أكاد، إذ ظرف لنالني‏.‏ والإقتار‏:‏ مصدر أقتر‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ وأقتر الرجل‏:‏ افتقر‏.‏ ومن متعلقة بالنفي، وقال العيني‏:‏ ومن متعلقة بأجتمل‏.‏ وسيجيء رده‏.‏ وزعم ابن برهان أن قوله من الإقتار مفعول له يعمل فيه أحتمل‏.‏ قال ابن الحاجب في أماليه‏:‏ لا يصح هذا، لفساد المعنى؛ إذ الاحتمال لم يكن من أجل إقتار فيخصصه بالنفي، وإنما يصح أن يكون معللاً بمثل ذلك ثم ينفيه مخصصاً له، كقولك‏:‏ ما جئتك طمعاً في برك؛ فإن المجيء قد يكون طمعاً في البر، فينفى المجيء المقيد بعلة الطمع، ولذلك لا يلزم منه نفي المجيء لغير ذلك، لأنه لا يتعرض له، بل قد يفهم منه إثبات مجيء لغير ذلك عند من يقول بالمفهوم‏.‏ أما لو قال‏:‏ ما كلفتك بشيء للتخفيف عليك، فلا يستقيم أن يكون تعليلاً لكلفتك، فإنه لا يصح أن يكون التخفيف علة للتكليف، وإنما علل به نفي التكليف من أجل غرض التخفيف‏.‏ وسر ذلك هو أنه إذا تعلق الفعل بشيء فلا بد أن يعقل مثبتاً في نفسه ثم يتعلق النفي به‏.‏ وإذا تعلق النفي به انتفى المقيد بما تعلق، ولا ينتفي مطلقاً، إذ لم ينفه إلا مقيداً‏.‏ ومن أجل ذلك امتنع تعلق من الإقتار بأحتمل‏.‏ ويمنع أيضاً تعلقه بأكاد، إذ لا يتصور تعليل مقاربة الاحتمال بالإقتار؛ لأنه عكس المعنى على ما تقدم في أحتمل، فوجب أن يكون متعلقاً بالنفي، إذ هو المسبب بالمعنى، لأن المعنى انتفت مقاربة الاحتمال، من أجل الإقتار‏.‏ ألا ترى أنك لو قلت لمن قال‏:‏ انتفت مقاربة الاحتمال‏:‏ ما سبب ذلك‏؟‏ لصح أن يقول‏:‏ سببه الإقتار‏.‏ ولو قلت لمن قال‏:‏ ما سبب مقاربة الاحتمال وما سبب الاحتمال‏؟‏ سببه الإقتار، لكان فاسداً‏.‏ فهو مما يوضح أنه تعليل للنفي، وغير مستقيم أن يكون تعليلاً لأحتمل وأكاد‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ والبيت من قصيدة للقطامي عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً، مدح بها أبا عثمان عبد الواحد‏.‏ قال ابن الكلبي

وابن حبيب‏:‏ هو عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏ وقال مصعب الزبيري‏:‏ هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك‏.‏ وكان والياً في المدينة لمروان بن محمد‏.‏ وهذا مطلع القصيدة‏:‏بن حبيب‏:‏ هو عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف‏.‏ وقال مصعب الزبيري‏:‏ هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك‏.‏ وكان والياً في المدينة لمروان بن محمد‏.‏ وهذا مطلع القصيدة‏:‏

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل *** وأن بليت وإن طالت بك الطيل

إلى أن قال بعد ستة أبيات‏:‏

والناس من يلق خيراً قائلون له *** ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

ثم وصف الإبل التي توصله إلى حبيبته علية بأبياتٍ منها‏:‏

يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ *** ولا الصدور على الأعجاز تتكل

إلى أن قال‏:‏

فقلت للركب لما أن علت بهم *** من عن يمين الحبيا نظرةٌ قبل

ألمحةً من سنا برقٍ رأى بصري *** أم وجه عالية اختالت به الكلل

ثم بعد أبيات خاطب ناقته، فقال‏:‏

إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً *** فقد يهون على المستنجح العمل

أهل المدينة لا يحزنك شأنهم *** إذا تخاطأ عبد الواحد الأجل

أما قريشٌ فلن تلقاهم أبد *** إلا وهم خير من يحفى وينتعل

إلا وهم جبل الله الذي قصرت *** عنه الجبال فما ساوى به جبل

قومٌ هم ثبتوا الإسلام وامتنعو *** رهط الرسول الذي ما بعده رسل

من صالحوه رأى في عيشه سعةٌ *** ولا يرى من أرادوا ضره يئل

كم نالني منهم فضلاً على عدم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وكم من الدهر ما قد ثبتوا قدمي *** إذ لا يزال مع الأعداء ينتضل

فما هم صالحوا من يبتغي عنتي *** ولا هم كدروا الخير الذي فعلوا

هم الملوك وأبناء الملوك لهم *** والآخذون به والساسة الأول

قوله‏:‏ إنا محيوك، أي‏:‏ داعون لك بالتحية، وهي البقاء، والطلل‏:‏ ما شخص من آثار الديار‏.‏ والطيل، بالكسر‏:‏ جمع طيلة، وهي الدهر‏.‏ وقوله‏:‏ والناس من يلق إلخ، يقول‏:‏ من أخطأ قيل‏:‏ لأمه الثكل‏!‏ وهو الهبل‏.‏ ومن يلق خيراً، أي‏:‏ من أصاب عوضاً من الدنيا، قالوا‏:‏ ما أرجله، لله أبوه ما أعقله‏!‏ ومن أخطأه الرزق، قالوا‏:‏ أماته الله ما أعجزه‏!‏ وقوله‏:‏ قد يدرك المتأني إلخ، صاحب الأناة والوقار والحلم‏.‏ وزل عن الأرض يزل زليلاً، إذا عثر‏.‏ وقوله‏:‏ يمشين رهواً إلخ، أي‏:‏ على هينتها‏.‏ يقال‏:‏ فعل ذلك راهياً، أي‏:‏ ساكناً سهلاً‏.‏ وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واترك البحر رهو‏}‏ على أن الرهو‏:‏ السير السهل الساكن‏.‏ ونسب البيت للأعشى ظاناً أنه من قصيدته التي أولها‏:‏

ودع هريرة إن الركب مرتحل *** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وليس كذلك‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ يقول‏:‏ هي موثقة الصدور والأعجاز لا تخذل أعجازها صدورها، ولا صدورها أعجازها‏.‏ وقوله‏:‏ فقلت للركب إلخ، نظرة‏:‏ فاعل علت‏.‏ والنظرة القبل بفتحتين‏:‏ التي لم تتقدمها نظرة، ومنه يقال‏:‏ رأينا الهلال قبلاً، إذا لم يكن رئي من قبل ذلك‏.‏ ومعنى علت بهم‏:‏ جعلتهم يعلون وينظرون‏.‏ والحبيا، بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية‏:‏ موضع بالشام‏.‏ وعن بمعنى جانب، فهي اسم‏.‏ وبه استدل ابن قتيبة في أدب الكاتب، وابن الناظم والمرادي أيضاً في شرح الألفية‏.‏ وقوله‏:‏ ألمحةٌ من سنة إلخ، هذا البيت مقول قلت‏.‏ واللمحة‏:‏ اللمعة‏.‏ وسنا البرق‏:‏ ضوءه‏.‏ واختالت‏:‏ تزينت به الكلل من حسنه، وضمير به للوجه‏.‏ والكلل‏:‏ الستور‏.‏ يريد أن وجه عالية ظهر إليهم من الستر، فأشرفوا ينظرون إليه إعجاباً به‏.‏ ومنجحة من أنجح الرجل، واستنجح، إذا ظفر بحاجته‏.‏ والعمل‏:‏ التعب‏.‏ ويحفى‏:‏ يمشي بغير حذاء، ومصدره الحفاء بالمد‏.‏ ويئل‏:‏ ينجو، يقال‏:‏ وأل يئل موئلاً‏.‏ ونالني‏:‏ أصابني‏.‏ وينتضل‏:‏ يرتمي، بالضاد المعجمة‏.‏ وعنتي‏:‏ هلاكي‏.‏ يقال‏:‏ عنت الرجل يعنت عنتاً، إذا وقع في هلكة‏.‏ وقوله‏:‏

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

أي‏:‏ منهم‏.‏ والآخذون به، أي‏:‏ بالملك، فأضمره لما جرى ذكر الملوك‏.‏ والقطامي‏:‏ شاعرٌ إسلامي في الدولة الأموية، تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والتسعون بعد الأربعمائة

وهو من شواهد س‏:‏

كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ *** فدعاء قد حلبت علي عشاري

على أنه قد روي عمة وخالة بالحركات الثلاث‏.‏ وشرحها شرحاً جيداً، وجوز في النصب أن تكون كم استفهامية وخبرية‏.‏ وهو مذهب أبي الحسن الربعي‏.‏ فإن السيرافي قال‏:‏ كم حينئذ استفهامية‏.‏ وتبعه الزجاجي‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ لا معنى هنا للاستفهام، ولكن شبه بالاستفهامية فنصب بها كما تشبه الاستفهامية بالخبرية فيجر بها، في نحو قولك‏:‏ على كم جذعٍ بيتك مبنيٌّ‏.‏ وتوسط الربعي بينهما، فقال‏:‏ الوجه ما قاله أبو علي‏.‏ والذي قاله السيرافي يجوز على أنه استفهمه هازئاً به‏.‏ كذا نقل ابن السيد، وتبعه ابن خلف‏.‏ والربعي مسبوقٌ، فإن ابن السراج قال في الأصول‏:‏ النصب عندي على وجهين‏:‏ على ما قاله سيبويه في لغة من ينصب في الخبر، وعلى الاستفهام‏.‏ انتهى‏.‏ وبهذا يضمحل قول اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ إن سيبويه أدخل البيت في وجه النصب على الخبر والتحقيق، لا على وجه الاستفهام والشك‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ومن ينصب كثير، منهم الفرزدق‏.‏ ولم يذكر الاستفهام لكن ذكر أنها شبهت في الخبر بالاستفهام، فنصب بها كما ينصب ما بعد العدد‏.‏ انتهى‏.‏ وكذا جوز الشارح المحقق الوجهين في الرفع‏.‏ قال ابن السراج‏:‏ اعلم أنك إذا قلت‏:‏ كم عمةٍ بالجر فلست تقصد إلا واحدة، وكذلك إذا نصبت، فإن رفعت لم يكن إلا واحدة؛ لأن التمييز يقع واحده في موضع الجمع، فإذا رفعت فلست تريد التمييز، فإذا قلت‏:‏ كم درهمٌ عندك فإنما المعنى‏:‏ كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه‏؟‏ فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز‏.‏ اه‏.‏ فكلٌّ من الجر والنصب أبلغ من الرفع، لأنهما يدلان على أن لجرير عماتٍ وخالات أجيرات ممتهنات‏.‏ والرفع يدل على أن له عمةً واحدة، حلبت له عشاره‏.‏ ولهذا قال السيرافي‏:‏ الأجود في البيت الخفض، وبعده النصب، وبعده الرفع‏.‏ وبين الشارح المحقق إعراب كم مع الرفع ولم يبينه مع غيره‏.‏ فهي مع خفض عمة ونصبها موضعها رفعٌ على الابتداء، والخبر جملة قد حلبت‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ وأفرد الضمير في حلبت حملاً على لفظ كم‏.‏ وليس هذا من قبيل ما هو عائدٌ على مجموع ما تقدم، نحو‏:‏ النساء فعلت كما زعمه الدماميني، فإن العمة والخالة مفردان، بخلاف النساء فإنه اسم جمع‏.‏ وأما في رواية رفع عمة على الابتداء، فلا بد من تقدير قد حلبت أخرى؛ لأن المخبر عنه في هذا الوجه متعدد لفظاً ومعنى‏.‏ ونظيره‏:‏ زينب وهند قامت‏.‏ قاله ابن هشام في المغني‏.‏ وجاز الابتداء بها وإن كانت نكرة، لأنها قد وصفت ب لك وبفدعاء محذوفةٍ مدلولها عليها بالمذكورة، إذ ليس المراد تخصيص الخالة بالفدع، كما حذفت لك من صفة خالة استدلالاً عليها بلك الأولى‏.‏ قاله ابن هشام أيضاً‏.‏ وعليه فيكون من قبيل الاحتباك؛ وهو أن يثبت لأحدهما نظير ما حذف من الآخر‏.‏ ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن الزمخشري في حواشيه على المفصل أن التقدير‏:‏ كم لك غيرهما‏؟‏ فتعلق لك بكم‏.‏ ولأبي علي في المسائل المنثورة كلامٌ جيد في كم، أحببت إيراده هنا‏.‏ قال‏:‏ إذا كانت كم خراً جاز فيهما بعدها الجر والرفع والنصب، وإنما جررته بكم لأن كم نقيضة رب، ومن أصولهم حمل الشيء على نقيضه‏.‏ ألا ترى أن رب للقلة وكم للكثرة‏!‏ فلما كانت بهذه المنزلة أجريت مجرى رب‏.‏ وإن نصب ما بعدها فجائزٌ لأنها عددٌ في الحقيقة، والأعداد تبين مرة بالنصب ومرة بالجر‏.‏ وإذا كان هذا جائزاً في الأعداد فعلى أي وجهٍ أردت جاز‏.‏ الرفع إذا قلت‏:‏ كم رجلٌ أتاني، صارت كم في معنى مرار، فتكون في موضع نصب بأتاني، ويكون رجلٌ مبتدأ وأتاني خبره‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ لا يكون ما تبين به كم إلا نكرة، وذلك لأنها عدد، والأعداد لا تبين إلا بالنكرات‏.‏ والنصب في الخبر جائز، لأنها عددٌ في الحقيقة، وإن كان الوجه الجر‏.‏ والحسن أن تنصب إذا فصلت بينها وبين ما أضيف إليها، لأن الفصل بين المتضايفين قبيح‏.‏ فلما قبح نصبوه لأنها في الحقيقة عدد، ورجل يفسر ويوضح‏.‏ وأما قول الشاعر‏:‏ كم بجود مقرفاً البيت، فنصب مقرفاً فسر به كم لأنه حال بينه وبين كم بقوله بجود، وتكون كم في موضع رفع بالابتداء، وهي في المعنى فاعلة، كما تقول‏:‏ زيد قام، فزيد مبتدأ، وإن كان فاعلاً في المعنى‏.‏ ويجوز الجر لأنك حلت بين كم وبين عملت فيه بظرف‏.‏ فأما قول الفرزدق‏:‏

كم عمة لك يا جرير وخالة

فأما النصب في العمة فتجعل كم رفعاً بالابتداء وحلبت خبرها، وعمة تفسير العدد، كأنه قال‏:‏ عشرون عمة حلبت‏.‏ والجر على ما تقدم من الكلام‏.‏ وأما الرفع في العمة فتكون كم في موضع نصب، وتكون كم في معنى مرار فتصير ظرفاً للحلب‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ تقول‏:‏ كم رجال قد رأينا، فجاز في كم أن تفسر بالجمع، لأن العدد يفسر بالجمع وبالواحد‏.‏ وإذا كانت كم عدداً جاز تفسيرها بالواحد والجمع مع أنه مع كم أشد استمراراً، وذلك إذا قلت‏:‏ عشرون درهماً، ففي الكلام دلالة على الجمع‏.‏ وإذا قلت‏:‏ كم فليس في كم دلالةٌ على الجمع، فلذلك أجازوا ذلك في كم‏.‏ انتهى كلام أبي علي‏.‏ وفدعاء‏:‏ صفة لخلة لقربها، وحذفه من عمة قبلها‏.‏ وقد فسر الشارح الفدعاء بكلام الصحاح وقال ابن الأعرابي‏:‏ الأفدع‏:‏ الذي يمشي على ظهور قدميه‏.‏ وقال أبو جعفر‏:‏ الفدع في القدم، والكوع في اليد‏.‏ والرسغ، بالضم هو من الإنسان‏:‏ مفصل ما بين الكف والساعد، والقدم إلى الساق‏.‏ ومن الدواب‏:‏ الموضع المستدق بين الحافر، وموضع الوظيف من اليد والرجل‏.‏ والإنسي بكسر الهمزة قال صاحب الصحاح‏:‏ الإنسي‏:‏ الأيسر من كل شيء‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ هو الأيمن‏.‏ وقال‏:‏ كل اثنين من الإنسان مثل الساعدين والقدمين فما أقبل منهما على الإنسان فهو إنسيٌّ، وما أدبر عنه فهو وحشي‏.‏ انتهى‏.‏ وقال صاحب المصباح‏:‏ الوحشي من كل دابة‏:‏ الجانب الأيمن‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فمالت على شق وحشيه *** وقد ريع جانبها الأيسر

قال الأزهري‏:‏ قال أئمة العربية‏:‏ الوحشي من جميع الحيوان غير الإنسان‏:‏ الجانب الأيمن، وهو الذي لا يركب منه الراكب ولا يحلب منه الحالب‏.‏ والإنسي‏:‏ الجانب الآخر، وهو الأيسر‏.‏ وروى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الوحشي هو الذي يأتي منه الراكب، ويحلب منه الحالب، لأن الدابة تستوحش عنده، فتفر منه إلى الجانب اليمن‏.‏ قال الأزهري‏:‏ وهو غير صحيح عندي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ويقال‏:‏ ما من شيء يفزع إلا مال إلى جانبه الأيمن، لأن الدابة إنما تؤتى للركوب والحلب من الجانب الأيسر، فتخاف عنده فتفر من موضع المخافة، وهو الجانب الأيسر إلى موضع الأمن، وهو الجانب الأيمن‏.‏ فلهذا قيل الوحشي الجانب الأيمن‏.‏ ووحشي اليد والقدم‏:‏ ما لم يقبل على صاحبه والإنسي خلافه‏.‏ ووحشي القوس‏:‏ ظهرها‏.‏ وإنسيها‏:‏ ما أقبل عليك منها‏.‏ انتهى، وسقناه برمته لجودته‏.‏ والشوه بسكون الواو‏:‏ مصدر شاهت الوجوه تشوه، أي‏:‏ قبحت‏.‏ وقول الشارح المحقق‏:‏ وإنما عدى حلبت بعلى لتضمنه معنى ثقلت إلخ، مأخوذ من كلام صدر الأفاضل، فإنه قال‏:‏ إن قيل‏:‏ ما معنى حلبت علي‏؟‏ أجيب بأن معناه‏:‏ على كرهٍ مني‏.‏ وهذا كما يقال باع القاضي عليه داره‏.‏ يقول‏:‏ استنكفت أن تحلب عشاري‏.‏ ويشهد لهذا المعنى الفدعاء‏.‏ انتهى‏.‏ قال شارح شواهد الإيضاح والمفتاح‏:‏ وجه الشهادة أن الفدعاء من صفات الإماء، فيؤذن بلؤمٍ من يوصف به، فلذلك استنكف‏.‏ يريد‏:‏ خدمنني على كره؛ لأنني لم أكن راضياً بذلك؛ لخستهن ولؤمهن‏.‏ ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أن الفدع من صفات الإماء‏.‏ وقوله‏:‏ علي، أي‏:‏ لي، أي‏:‏ كانت راعية لي‏.‏ ثم نقل كلام صدر الأفاضل‏.‏ وقال‏:‏ الأجود ما في الحواشي، لأنه لا تحلب عشاره إلا بإذنه، وهو أبلغ‏.‏ هذا كلامه‏.‏ والعشار، بالكسر، جمع عشراء بضمٍّ ففتح وبالمد، قال اللخمي‏:‏ هي الناقة التي مضت لها عشرة أشهر من حملها‏.‏ ثم يبقى عليها الاسم إلى أن تنتج لحولٍ وبعد ذلك بأيام‏.‏ على هذا إجماع أكثر اللغويين‏.‏ وقيل‏:‏ يقع هذا الاسم على التي أتى عليها من وضعها عشرة أشهر، وهي في هذا البيت كذلك، بدليل قوله‏:‏ حلبت، وهو الوجه، ويحتمل أن يحمل البيت الأول على القول الأول‏.‏ ومعنى البيت يذمه بذلك ويصفه أنه من أهل القلة، وليس من أهل الشرف والسعة، إذ لو كان كذلك لصانهن من الابتذال‏.‏ وإنما خص النساء بالحلب لأن العرب يتعايرون بحلب النساء، فهو في القلة كما قال السليك‏:‏

أشاب الرأس أني كل يومٍ *** أرى لي خالةً وسط الرحال

يعز على أن يلقين ضيم *** ويعجز عن تخلصهن مالي

وقد صحف اللحياني ثلاث كلمات من البيت‏.‏ الأولى‏:‏ حلبت فإنه صحفه بجليت، بضم الجيم وكسر اللام بعدها مثناة تحتية‏.‏ والثانية‏:‏ علي، صحفه بعلى الجارة‏.‏ والثالثة‏:‏ عشاري، فإنه صحفه بعشار، بفتح العين وتشديد الشين‏.‏ قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ أصحابنا البصريون في كثير مما يحكيه اللحياني كالمتوقفين‏.‏ حكى أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم، قال‏:‏ سمعت اللحياني ينشد‏:‏

كم عمة يا جرير لك وخالةٍ *** فدعاء قد جليت على عشار

فقلت له‏:‏ ويحك، إنما هو‏:‏ قد حلبت علي عشاري‏.‏ فقال لي‏:‏ وهذه أيضاً رواية‏.‏ ومما صحفه أيضاً قولهم في المثل‏:‏ يا حامل اذكر حلا حامل بالميم‏.‏ وإنما هو‏:‏ يا حابل اذكر حلا بالباء، أي‏:‏ يا من يشد الحبل اذكر وقت حله‏.‏ وذاكرت بنوادره شيخنا أبا علي فرأيته غير راضٍ بها، وكان يكاد يصلي بنوادر أبي زيد إعظاماً لها‏.‏ وقال لي وقت قراءتي إياها عليه‏:‏ ليس فيها حرف إلا وتحته لأبي زيد غرضٌ ما‏.‏ وهو كذلك، لأنها محشوة بالنكت والأسرار‏.‏ انتهى‏.‏ ورأيت في تذكرة أبي علي حدثني أبو خالد عن إسحاق بن الموصلي، قال‏:‏ أنشد أبو المنذر العروضي يوماً‏:‏ قد جليت على عشار فقيل له‏:‏ الرواية‏:‏ قد حلبت علي عشاري فقال‏:‏ وهذا أيضاً وجيه‏.‏ انتهى‏.‏ ووقع مثل بيت الفرزدق بيتٌ لجرير من قصيدةٍ، هجى بها خليد عينين العبدي، وهو‏:‏

كم عمة لك يا خليد وخالة *** خضر نواجذها من الكراث

قال المبرد في الكامل‏:‏ وإنما هجاه بالكراث، لأن قبيلة عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه‏:‏ الركل والركال‏.‏ وبيت الفرزدق من قصيدة عدتها ثمان وثلاثون بيتاً هجا بها جريراً، مطلعها‏:‏

يا ابن المراغة إنما جاريتني *** بمسبقين لدى الفعال قصار

والحابسين إلى العش ليشربو *** نزح الركي ودمنة الأسآر

يا ابن المراغة كيف تطلب دارم *** وأبوك بين حمارةٍ وجمار

لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم *** وأوابدي بتنحل الأشعار

إلى أن قال‏:‏

قبح الإله بني كليبٍ إنهم *** لا يغدرون ولا يفون لجار

يستيقظون إلى نهاق حميرهم *** وتنام أعينهم عن الأوتار

متبرقعي لؤماً كأن وجوههم *** طليت حواجبها عنية قار

كم من أبٍ لي يا جرير كأنه *** قمر المجرة وسراج نهار

ورث المكارم كابراً عن كابر *** ضخم الدسيعة كل يوم فخار

إلى أن قال‏:‏

كم عمةٍ لك يا جرير وخالةٍ *** فدعاء قد حلبت علي عشاري

كنا نحاذر أن تضيع لقاحن *** ولهى إذا سمعت دعاء يسار

شغارةٌ تقذ الفصيل برجله *** فطارةٌ لقوادم الأبكار

وهذا آخر القصيدة‏.‏ وقوله‏:‏ لا يغدرون إلخ‏.‏ يقول‏:‏ هم ضعفاء لا يقدرون على غدر ولا على وفاء‏.‏ وعنية، بفتح العين وكسر النون بعدها مثناة تحتية مشددة، قال في الصحاح‏:‏ هو بول البعير يعقد في الشمس، يطلى به الأجرب‏.‏ والقار بالقاف، قال في الصحاح‏:‏ هو الإبل‏.‏ وقوله‏:‏ كنا نحاذر إلخ، تضيع‏:‏ مضارع أضاع، ولقاحنا مفعوله وهو جمع لقوح وهي الناقة الحلوب‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ إذا نتجت الناقة فهي لقوح شهرين وثلاثة، ثم لبون بعد ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ولهى‏:‏ فاعل تضيع، وهو فعلة من الوله‏.‏ ويسار اسم عبد كان يتعرض لبنات مولاه‏.‏ وقوله‏:‏ شغارة تقذ الفصيل إلخ، هو من شواهد سيبويه، أورده بعد قوله‏:‏ كم عمة لك يا جرير البيت، بنصب شغارةً على الذم‏.‏ قال‏:‏ زعم يونس أنه سمع الفرزدق ينشده بالنصب، جعله شتماً، وكأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالماً بذلك‏.‏ ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزاً عربياً‏.‏ انتهى‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد في نصب شغارة وفطارة على الشتم‏.‏ والشغارة‏:‏ التي ترفع رجلها ضاربةً للفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب، يقال‏:‏ شغر الكلب إذا رفع رجليه ليبول‏.‏ والوقذ‏:‏ أشد الضرب‏.‏ والموقوذة‏:‏ التي نهكت ضرباً حتى أشرفت على الهلاك‏.‏ والفطارة‏:‏ التي تحلب الفطر، وهو القبض على الخلف بأطراف الأصابع لصغره‏.‏ والضف‏:‏ أن يقبض عليه بالكف لعظمه‏.‏ والأبكار‏:‏ جمع بكر، وهي التي نتجت أول بطن‏.‏ وقوادمها‏:‏ أخلافها، وهي أربعة‏:‏ قادمان وآخران، فسماها كلها قوادم اتساعاً وجازاً‏.‏ وإنما وصفها بهذا الضرب من الحلب، لأنه أصعبه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن خلف‏:‏ الضف بالفاء، ويقال‏:‏ الضب بالباء، وهو الحلب بالكف كلها، وإنما يكون للكبار من النوق، وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع لصغر ضرعها، وإنما وصف حذقها ومعرفتها بالحلب لأنها نشأت عليه‏.‏ وقال ابن المستوفي‏:‏ أراد أنها عالمة بالحلب، فهي أول من فتح قوادمها‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الأخلاف والضروع أيام الحمل تكون مسدودةً بشيء كالصمغ، فإذا ولدت الدابة عالجه الحالب حتى ينزعه من مكانه، فيسهل خروج اللبن‏.‏ ووجدت هذا البيت في شعر الراعي من أبياتٍ أولها‏:‏

عوجوا المطي علي ذا الأكوار *** كيما أخبركم من الأخبار

أن الخلال وخنزراً ولدتهم *** أمٌّ مقارفةٌ على الأطهار

شغارة تقذ الفصيل برجله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

انتهى‏.‏ وقد تكلم السيد المرتضى قدس سره في أماليه على هذا البيت فلا باس بإيراده‏:‏ قال‏:‏ أما قول الفرزدق‏:‏

شغارةٌ تقذ الفصيل برجله ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فإنه من غريب شعره‏.‏ وفسره، قال‏:‏ معنى شغارة أنها ترفع رجلها للبول‏.‏ وقوله‏:‏ تقذ الفصيل، أي‏:‏ تدفعه عن الدنو إلى الرضاع ليتوفر اللبن على الحلب‏.‏ وأراد بتقذه، أي‏:‏ تبالغ في إيلامه وضربه، ومنه الموقوذة‏.‏ فأما قوله‏:‏ فطارة لقوادم البكار، فالفطر هو الحلب بثلاث أصابع‏.‏ والقوادم‏:‏ الأخلاف‏.‏ وإنما خص الأبكار بذلك لأن صغر أخلافها يمنع من حلبها ضباً‏.‏ والضب هو الحلب بالأصابع الأربع، فكأنه لا يمكن فيها، لقصر أخلافها، إلا الفطر‏.‏ ومعنى البيت تعييره لنساء جرير بأنهن راعيات، وذلك مما تعير به العرب النساء‏.‏ ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت‏:‏

كم عمة لك يا جرير وخالة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

كنا نحاذر أن تضيع لقاحن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ثم تلا ذلك بقوله‏:‏ شغارة‏.‏ قال السيد المرتضى رضي الله عنه‏:‏ وعندي أن قوله شغارة، كناية عن رفع رجلها للزنى، وهو أشبه بأن تكون مرادة في هذا الموضع‏.‏ ألا ترى أنه قد وصفها بالوله وترك حفظ اللقاح عند سماعها دعاء يسار‏.‏ ويسار‏:‏ اسمٌ لراع، فكأنه وصفها بالوله إلى الزنى والإسراع إليه، وترك حفظ ما استحفظته من اللقاح‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الواهب المائة الهجان وعبدها

هذا صدر، وعجزه‏:‏

عوذاً تزجي خلفها أطفالها

على أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع كما هنا، وهو جعل ضمير المعرف باللام في التابع مثل المعرف باللام، فإن قوله‏:‏ عبدها بالجر معطوف على المائة، وهو مضاف إلى ما ليس فيه أل، واغتفر هذا لكونه تابعاً‏.‏ والهجان‏:‏ كرام الإبل‏.‏ والعوذ‏:‏ جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج قبل أن توفي خمس عشرة ليلة، ثم هي مطفل بعده‏.‏ وتزجي‏:‏ تسوق، وفاعله ضمير العوذ، وأطفالها مفعولة‏.‏ والمعنى أن هذا الممدوح يهب المائة من الإبل الكريمة مع أطفالها، ويهب راعيها أيضاً‏.‏ وقد تقدم شرح هذا مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائتين‏.‏

الظروف

أنشد فيه‏:‏

إلا علالة وبد *** هة سابحٍ نهد الجزاره

على أنه حذف المضاف إليه من الأول بدلالة المضاف إليه من الثاني التابع؛ فإن الأصل‏:‏ إلا علالة سابح، وبداهة سابح، فحذف سابح من الأول لدلالة الثاني عليه‏.‏ وتقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب، ومر في باب الإضافة أيضاً‏.‏ قال الفراء في تفسيره‏:‏ ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر، فقد قال الشاعر‏:‏

إلا بداهة وعل *** لة سابحٍ نهد الجزاره

وسمعت أبا ثروان العكلي، يقول‏:‏ قطع الله الغداة يد ورجل من قاله‏.‏ وإنما يجوز هذا في الشيئين يصطحبان، مثل اليد والرجل‏.‏ ومثله‏:‏ عندي نصف وربع درهم، وجئتك قبل وبعد العصر‏.‏ ولا يجوز في الشيئين يتباعدان، مثل الدار والغلام، فلا يجيزون‏:‏ اشتريت دار وغلام زيد، ولكن عبد وأمة زيد وعين وأذن زيد، وما أشبهه‏.‏ اه‏.‏ والعلالة بالضم‏:‏ بقية جري الفرس، وهو منصوبٌ لأنه استثناء منقطع‏.‏ والبداهة بالضم أيضاً‏:‏ أول جري الفرس‏.‏ والسابح‏:‏ الفرس الذي يدحو الأرض بيديه في العدو‏.‏ والنهد‏:‏ المرتفع العالي‏.‏ والجزاره‏:‏ بضم الجيم‏:‏ الرأس واليدان والرجلان‏.‏ يريد أن في عنقه وقوائمه طولاً وارتفاعاً‏.‏ وأنشد بعده

الشاهد الثالث والتسعون بعد الأربعمائة

ونحن قتلنا الأزد أزد *** فما شربوا بعداً على لذةٍ خمرا

على أنه يجوز بقلة في هذه الظروف أن يعوض التنوين من المضاف إليه فيعرب، كما أعرب بعداً في البيت على الظرفية، والكثير البناء على الضم؛ إذ المختار عند الشارح المحقق أن المبني على الضم والمنون لا فرق بينهما في المعنى، وإنهما مقطوعان عن الإضافة‏.‏ فإن لم يبدل التنوين من المضاف إليه بني على الضم لما ذكره، وإن أبدل عنه كان معرباً بالنصب على الظرفية‏.‏ وقد ينون المبني على الضم في الضرورة‏.‏ وقد روى‏:‏ فما شربوا بعدٌ أيضاً بضمتين‏.‏ فالأول معرب وهذا مبني وكلاهما معرفة، إذ المضموم بنية الإضافة إلى معرفة‏.‏ قال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ وإذا قطعا، يعني قبل وبعد، عن الإضافة لفظاً، ونوى ما أضيف إليه، وكان معرفة بنيا على الضم‏.‏ ثم قال أبو حيان‏:‏ وقد يتوقف في تعريفهما بالإضافة إلى معرفة، لأنهما متوغلان في الإبهام‏.‏ هذا محصل كلام الشارح المحقق‏:‏ وكون التنوين المنصوب للتعويض من المضاف إليه كتنوين بعض وكل، هو مذهب الجماعة‏.‏ قال ابن مالك في شرح الكافية‏:‏ وذهب بعض العلماء إلى أن قبلاً في قوله‏:‏ وكنت قبلاً معرفةٌ بنية الإضافة، إلا أنه أعرب، لأنه جعل ما لحقه من التنوين عوضاً من اللفظ بالمضاف إليه، فعومل قبل مع التنوين لكنه عوضاً من المضاف إليه بما يعامل به مع المضاف إليه، كما فعل بكل، حين قطع عن الإضافة لحقه التنوين عوضاً‏.‏ وهذا القول عندي حسن‏.‏ اه‏.‏ وهذا خلاف الطريقة المشهورة، وهو ما عليه الجمهور، قالوا‏:‏ إن المنون نكرة كسائر النكرات، وإن التنوين فيها للتمكين‏.‏ قال ابن مالك في الألفية‏:‏

وأعربوا نصباً إذا ما نكر *** قبلاً وما من بعده قد ذكرا

قال الشاطبي في شرحه‏:‏ تخصيصه النصب في هذه الأشياء، إذا قصد تنكيرها دون الجر والرفع، ظاهر التحكم من غير دليل، وأمرٌ لا يساعده عليه سماع، فإن أكثر ما ذكر يدخل فيه الجر وغيره‏.‏ تقول أتيته من فوق ومن تحتٍ، وفي بعض القراءات‏:‏ لله الأمر من قبل ومن بعدٍ، ومن دونٍ، ومن دبرٍ وما أشبه ذلك‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وسألته يعني الخليل عن قوله‏:‏ ومن دونٍ، ومن فوق، ومن تحت، ومن قبل، ومن بعد، ومن دبرٍ، ومن خلف، فقال‏:‏ أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة؛ لأنها تضاف وتستعمل غير ظرف‏.‏ ثم قال‏:‏ وكذلك من أمام ومن قدامٍ ومن وراء ومن قبل ومن دبرٍ، قال‏:‏ وزعم الخليل أنهن نكرات، كقول أبي النجم‏:‏

يأتي لها من أيمنٍ وأشمل

وزعم أنهن نكرات، إذا لم يضفن إلى معرفة، كما يكون أيمنٌ وأشملٌ نكرة‏.‏ وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونة‏.‏ اه‏.‏ وقد رفعوا قبل ونحوه كما في قوله الوافر‏:‏

هتكت به بيوت بني طريفٍ *** على ما كان قبلٌ من عتاب

انتهى وأورده الشاطبي‏.‏ وقسموا هذه الظروف على أربعة أقسام‏:‏ ما ذكر فيه المضاف إليه، نحو‏:‏ قبل زيد وبعده‏.‏ فهذا ينصب على الظرفية، ويجر بمن خاصة‏.‏ الثاني‏:‏ ما حذف منه المضاف إليه، ونوي ثبوت لفظه، فهذا أيضا يعرب كالأول، إلا أنه لا ينون لنية الإضافة‏.‏ الثالث‏:‏ ما حذف منه المضاف إليه، ونوي معناه لا لفظه، فهذا يبنى على الضم‏.‏ الرابع‏:‏ ما حذف منه المضاف إليه، ولم ينو لا لفظه ولا معناه‏.‏ فهذا ينون، وتنوينه للتمكين، وهو نكرة‏.‏ وقد تكلم الفراء على قبل وبعد في تفسيره فلا بأس بنقل كلامه تبركاً‏.‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لله الأمر من قبل ومن بعد‏}‏ القراءة بالرفع من غير تنوين، لأنهما في المعنى يراد بهما الإضافة إلى شيء لا محالة، فلما أديا عن معنى ما أضيفتا إليه وسموهما بالرفع وهما مخفوضتان، ليكون الرفع دليلاً على ما سقط مما أضفتهما إليه‏.‏ وكذلك ما أشبههما، كقول الشاعر الوجز‏:‏

إن تأت من تحت أجئها من عل

ومثله قول الشاعر‏:‏

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن *** لقاؤك إلا من وراء وراء

ترفع إذا جعلته غاية ولم تذكر بعده الذي أضفته إليه، فإن نويت أن تظهره وأظهرته، قلت‏:‏ لله الأمر من قبل ومن بعد، كأنك أظهرت المخفوض الذي أسندت إليه قبل وبعد‏.‏ وسمع الكسائي بعض بني أسدٍ يقرؤها‏:‏ لله الأمر من قبل ومن بعد بخفض قبل وبرفع بعد على ما نوى‏.‏ وأنشدني هو الطويل‏:‏

أكابدها حتى أعرس بعد م *** يكون سحير وبعيد فأهجعا

أراد‏:‏ بعيد السحر، فأضمره، ولو لم يرد ضمير الإضافة لرفع فقال‏:‏ بعيد‏.‏ ومثله قول الشاعر الطويل‏:‏

فو الله ما أدري وإني لأوجل *** على أينا تعدو المنية أول

رفعت أول لأنه غاية‏.‏ ألا ترى أنها مسندة إلى شيء هي أوله، كما تعرف أن قبل لا يكون إلا قبل شيء، وأن بعد كذلك‏.‏ ولو أطلقتهما بالعربية فنونت وفيهما معنى الإضافة، فخفضت في الخفض، ونونت في النصب والرفع لكان صواباً‏.‏ قد سمع ذلك من العرب، وجاء في أشعارها، فقال بعضهم‏:‏

فساغ لي الشراب وكنت قبل *** أكاد أغص بالماء الحميم

فنون‏.‏ وكذلك تقول‏:‏ جئتك من قبلٍ فرأيتك‏.‏ وكذلك قوله الطويل‏:‏

كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل

فهذا مخفوضٌ، وإن شئت نونت‏.‏ وأما قول الآخر‏:‏

هتكت به بيوت بني طريفٍ *** على ما كان قبلٌ من عتاب

فنون ورفع، فإن ذلك لضرورة الشعر، كما يضطر إليه الشاعر فينون في النداء المفرد، كقوله‏:‏

قدموا إذ قيل قيسٌ قدمو *** وارفعوا المجد بأطراف الأسل

وأنشدني بعض بني عقيل‏:‏

ونحن قتلنا الأسد أسد شنوءةٍ *** فما شربوا بعد على لذة خمرا

ولو رده إلى النصب كان وجهاً، كما قال الطويل‏:‏

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً

وكذا النداء لو رد إلى النصب إذا نون كان وجهاً، كما قال‏:‏

فطر خالداً إن كنت تستطيع طيرةً *** ولا تقعن إلا وقلبك حاذر

ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر‏.‏ إلى آخر ما نقلناه قبل هذا البيت‏.‏ انتهى كلام الفراء‏.‏ وقد لخص هذا الكلام أبو إسحاق الزجاجي في شرح خطبة أدب الكتاب وهو عندي بخطه، وتاريخ كتابته سنة سبع وسبعين وثلثمائة، وقال‏:‏ هذا الذي اختاره الفراء من نصب المنادى المفرد في ضرورة الشعر هو مذهب أبي عمرو بن العلاء وأصحابه‏.‏ والمذهب الأول، هو رفعه منوناً، هو مذهب الخليل وسيبويه وأصحابه‏.‏ وذلك أن أبا عمرو، قال‏:‏ المنادى المفرد إذا اضطر الشاعر إلى تنوينه فسبيله أن ينصبه، لأنه في موضع نصب‏.‏ وإنما بني على الضم لمضارعته المضمر، فإذا نون فقد زال عن البناء، وسبيله أن يرجع إلى أصله‏.‏ وقال الخليل‏:‏ سبيله أن يترك مضموماً وينون‏.‏ وشبهه بالاسم الذي لا ينصرف إذا نون في ضرورة الشعر‏.‏ ومذهب أبي عمرو أقيس، ولولا كراهة الإطالة لذكرت ما يعتل به الفريقان‏.‏ وأنشد البصريون قول الأحوص الوافر‏:‏

سلام الله يا مطرٌ عليه *** وليس عليك يا مطر السلام

فالخليل وأصحابه يروونه‏:‏ يا مطرٌ بالرفع والتنوين، وأبو عمرو وأصحابه يروونه‏:‏ يا مطراً، بالنصب‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وكل العرب ينشدون الخفيف‏:‏

يا عدياً لقلبك المهتاج

بالنصب‏.‏ انتهى‏.‏ والبيت الشاهد لم أر من عزاه إلى قائله‏.‏ وأورده الزجاجي في شرح تلك الخطبة مع بيتٍ قبله، وهو الطويل‏:‏

ما من أناسٍ بين مصر وعالجٍ *** وأبين إلا قد تركنا لهم وترا

وعالج، بكسر اللام‏:‏ موضع بالبادية به رمل‏.‏ وأبين، بفتح الهمزة وكسرها وسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة‏:‏ موضع في اليمن، قال أبو عبيد البكري‏:‏ هو بكسر الهمزة اسم رجل كان في الزمن القديم، وهو الذي تنسب إليه عدن إبين من بلاد اليمن، هكذا ذكره سيبويه في الأبنية بكسر الهمزة‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ سألت أبا عبيد‏:‏ كيف تقول ابين بفتح الهمزة وبكسرها‏؟‏ قال‏:‏ أقولهما جميعاً‏.‏ قال الهمداني‏:‏ وهو ذو أبيت بن ذي يقدم بن الصوأر بن عبد شمس بن وائل بن الغوث‏.‏ قال الرائش البسيط‏:‏

واذكر به سيد الأقوام ذا بينٍ *** من القدام وعمراً والفتى الثاني

أراد‏:‏ ذا إبين‏.‏ وحمير تطرح مثل هذه الألف فتقول في اذهب‏:‏ ذهب‏.‏ اه‏.‏ وقال ياقوت في معجم البلدان‏:‏ أبين بفتح أوله ويكسر، ويقال‏:‏ يبين‏.‏ وذكره سيبويه في الأمثلة بكسر الهمزة، ولا يعرف أهل اليمن غير الفتح، وهو مخلاف باليمن، منه عدن، يقال‏:‏ إنه سمي بأبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير ابن سبأ‏.‏ وقال الطبري‏:‏ عدن وأبين‏:‏ ابنا عدنان بن أدد‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

ما من أناسٍ بين مصر وعالج *** البيتين

وقال عمارة بن الحسن اليمني‏:‏ أبين‏:‏ موضع في جبل عدن‏.‏ اه‏.‏ والوتر، بفتح الواو وكسرها‏:‏ الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتلٍ ونهب وسبي‏.‏ والأزد، ويقال‏:‏ الأسد بإبدال الزاي سيناً‏:‏ أبو حيٍّ من اليمن، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ‏.‏ وهو فرق‏:‏ فرقة يقال لها‏:‏ أزد شنوءة، وأخرى أزد عمان، وأخرى أزد السراة‏.‏ فلما كان الأزد يجمع قبائل شتى بين المراد منه بقوله أزد شنوءة‏.‏ والشنوءة بالهمزة على وزن فعولة، ومعناه التقزز، وهو التباعد من الأدناس‏.‏ تقول‏:‏ رجل فيه شنوءة، أي‏:‏ تقزز‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ ومنه أزد شنوءة، وهم حيٌّ باليمن ينسب إليهم شنائي‏.‏ قال ابن السكيت ربما قالوا أزد شنوة بالتشديد غير مهموز، وينسب إليها شنوي‏.‏ قال الرجز‏:‏

نحن قريشٌ وهم شنوه *** بنا قريشاً ختم النبوه

ورواه ابن سيده في المحكم، وتبعه العيني‏:‏

ونحن قتلنا الأسد أسد خفية

وهذا تحريف قطعاً، ولا يلائمه ما بعده‏.‏ وخفية، بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء‏:‏ اسم موضع كثير الأسود‏.‏ قال العيني‏:‏ وأسد خفية بدل من الأسد، ولم يبين هل هو بدل كل، وبدل بعض بتقدير العائد، أي‏:‏ منهم، والظاهر أنه بيان له‏.‏ وبعداً‏:‏ ظرف لشربوا‏.‏ والأصل عند الشارح المحقق بعد قتلنا إياهم، فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين‏.‏ وأنشد بعده الوافر‏:‏

فساغ لي الشراب وكنت قبل *** أكاد أغص بالماء الحميم

على أن الأصل‏:‏ قبل هذا، فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين‏.‏ وعند الجمهور‏:‏ التنوين للتمكين وهو نكرة، فمعنى كنت قبلاً‏:‏ كنت متقدماً‏.‏ ومعنى فما شربوا بعداً‏:‏ ما شربوا متأخراً، ولا ينوي تقدمٌ ولا تأخر على شيء معين، وإنما المراد في هذه الحالة مطلق التقدم والتأخر من حيث هو‏.‏ وأما في حال الإضافة فالنية بهما التقدم والتأخر على شيء بعينه‏.‏ قال الدماميني‏.‏ والبيت قد تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد التاسع والستين‏.‏ وأنشد بعده الرجز‏:‏

خالط من سلمى خياشيم وفا

على أن الأصل‏:‏ وفاها، فحذف المضاف إليه‏.‏ وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين من باب الاستثناء، وبعد الشاهد الثاني والعشرين بعد الثلثمائة من باب الإضافة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والتسعون بعد الأربعمائة

البسيط‏:‏

إني أتتني لسان لا اسر به *** من علو لا عجبٌ منها ولا سخر

على أنه روى علو مثلث الواو‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ وعلو بتثليث الواو‏:‏ أي‏:‏ أتاني خبرٌ من أعلى نجد‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أراد العالية‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ أي‏:‏ من أعالي البلاد‏.‏ وأنث اللسان لأنه بمعنى الرسالة هنا، لأن الشاعر كان أتاه خبر قتل أخيه المنتشر‏.‏ والسخر، بفتحتين وبضمتين‏:‏ الاستهزاء‏.‏ يقول‏:‏ لا عجب من هذه الرسالة وإن كانت عظيمة، لأن مصائب الدنيا كثيرة، ولا سخر بالموت‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا أقول ذلك سخرية‏.‏ والبيت مطلع قصيدةٍ لأعشى باهلة، رثى بها أخاه المنتشر بن وهب الباهلي‏.‏ وقد شرحنا القصيدة برمتها، وما يتعلق بها على سبيل الاستقصاء في الشاهد السابع والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والتسعون بعد الأربعمائة

وهو من شواهد س‏:‏

بآية يقدمون الخيل شعث *** كأن على سنابكها مداما

على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر، ومن غير الأغلب أن تضاف إليها بدونه كهذا البيت‏.‏ وهذا خلاف مذهب سيبويه، فإن آية عنده لا تضاف إلى الفعلية إلا بدون حرف المصدر‏.‏ هذا نصه‏:‏ ومما يضاف إلى الفعل أيضاً؛ قال الأعشى‏:‏

بآية يقدمون الخيل شعث *** كأن على سنابكها مداما

وقال يزيد بن عمرو بن الصعق‏:‏

ألا من مبلغٌ عني تميم *** بآية ما يحبون الطعام

فما‏:‏ لغوٌ‏.‏ انتهى‏.‏ وذهب ابن جني إلى أن آية إنما تضاف إلى مفرد، نحو‏:‏ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ، وقال‏:‏ الأصل بآية ما تقدمون، أي‏:‏ بآية إقدامكم، كما قال الوافر‏:‏

بآية ما يحبون الطعاما

ويؤخذ من تقريره أن تقدمون بالخطاب، والمشهور أنه بالغيبة، وعليه المعنى‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ فيه حذف موصول حرفيٍّ غير أن وبقاء صلته‏.‏ ثم هو غير متأتٍّ في قوله الطويل‏:‏

بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً

وتكلف الدماميني، فقال‏:‏ بل هو متأتٍّ بأم تكون ما مصدرية، ولا النافية محذوفة لدلالة ما بعدها عليها، والمعنى بآية كونهم لا ضعافاً ولا عزلاً‏.‏ ثم قال ابن هشام‏:‏ ومذهب سيبويه أن آية مما يضاف جوازاً إلى الجملة الفعلية المتصرف فعلها، سواء كان مثبتاً كالبيت الشاهد، ومنفياً بما، كقوله‏:‏

بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً

انتهى‏.‏ وكذا قال‏:‏ صاحب المفصل أن آية مما يضاف إلى الفعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ قال أبو إسحاق‏:‏ لأن معنى آية علامة من الزمان، وأضيف الفعل إلى الزمان، لأن الفعل من أجل الزمان ذكر‏.‏ وكان أبو إسحاق يرى أنه حكاية‏.‏ وقال غيره‏:‏ المراد المصدر‏.‏ وقال المبرد في إضافة آية إلى الفعل‏:‏ إنه بعيد، وجاز على بعده للزوم الإضافة، لأن آية لا تكاد تفرد إذا أردت بها العلامة‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه أن أكثر ما وجدت في القرآن بهذا المعنى مفردةً عن الإضافة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏، وآيةٌ لهم أن حملنا ذريتهم ‏.‏ وقال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه اضافة آية إلى يقدمون على تأويل المصدر، أي‏:‏بآية إقدامهم الخيل‏.‏ يريد أن المعنى عليه، لأن الفعل مؤول بحرف مصدر مقدر، إذ الغرض أنه مضافٌ إلى الجملة من دون سابك‏.‏ ثم قال الأعلم‏:‏ وجاز هذا فيها، لأنها اسمٌ من أسماء الفعل، لأنها بمعنى علامة، والعلامة من العلم، وأسماء الأفعال تضارع الزمان، فمن حيث جاز أن يضاف الزمان إلى الفعل، جاز هذا في آية، وكأن إضافتها على تأويل إقامتها مقام الوقت، كأنه قال‏:‏ بعلامة وقت يقدمون‏.‏ يقول‏:‏ أبلغهم عني كذا بعلامة إقدامهم الخيل للقاء شعثاً متغيرة من السفر والجهد‏.‏ وشبه ما ينصب من عرقها ممتزجاً بالدم على سنابكها بالخمر‏.‏ والسنابك‏:‏ جمع سنبك، وهو مقدم الحافر‏.‏ انتهى‏.‏ أراد أن ذلك لما صار عادةً وأمراً لازماً، صار علامة‏.‏ وكأن الشاعر لما حمل إنساناً أن يبلغ قوماً رسالته، قال له ذلك الإنسان‏:‏ بأي علامة يعرف هؤلاء القوم‏؟‏ فقال‏:‏ بعلامة تقديمهم الخيل إلى الحرب‏.‏ أي‏:‏ إذا رأيت قوماً بهذه الصفة، فأبلغ رسالتي‏.‏ والشعث‏:‏ جمع أشعث، وهو المغبر الرأس‏.‏ قال الدماميني في الحاشية الهندية‏:‏ ضمير يقدمون ضمير غيبة يعود على تميم المذكورين قبله، وهو‏:‏

ألا من مبلغٌ عني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما

وهذا لا يصح؛ فإن كل بيت منهما من شعرٍ آخر، وليسا من قصيدةٍ لقائل واحد‏.‏ والبيت الشاهد لم أره منسوباً إلى الأعشى في كتاب سيبويه، وفي غيره غير منسوب إلى أحد‏.‏ والله أعلم به‏.‏ وقد تكلم على معنى الآية أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي، فيما كتبه على إصلاح المنطق لأبي يوسف بن السكيت من كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال أبو يوسف‏:‏ وقد تأييته‏:‏ تعمدت آيته، أي‏:‏ شخصه‏.‏ وحكى لنا أبو عمرو‏:‏ يقال خرج القوم بآيتهم، أي‏:‏ بجماعتهم، أي‏:‏ لم يدعوا وراءهم شيئاً‏.‏ وأنشدنا لبرج بن مسهرالطويل‏:‏

خرجنا من النعتين لا حي مثلن *** بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا

قال‏:‏ ومعنى آية من كتاب الله، أي‏:‏ جماعة حروفه‏.‏ قال أبو القاسم‏:‏ قد أفسد أبو يوسف صحيح قوله الأول، بقول أبي عمرو في معنى الآية من كتاب الله، وإنما الآية العلامة لا جماعة حروف‏.‏ وكذلك قال ابن دريد‏:‏ والآية من القرآن الكريم كأنها علامةٌ لشيء، ثم يخرج منها إلى غيرها‏.‏ وكذلك قال في بيت البرج، أي‏:‏ خرجوا بجماعتهم، وبما يستدل به عليهم من متاعهم‏.‏ ويقال‏:‏ هذه آية كذا، أي‏:‏ علامة كذا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ربعٍ آيةً تعبثون‏}‏، أي‏:‏ أمرةً وعلامة، ومنه قول الشاعر‏:‏

بآية يقدمون الخيل زور *** تسن على سنابكها القرون

وقال آخر‏:‏

بآية يقدمون الخيل زور *** كأن على سنابكها مداما

وقال آخر

ألا أبلغ لديك بني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما

وقال المفسرون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب اجعل لي آية‏}‏، قالوا علامةً أعلم بها وقوع ما بشرت به‏.‏ وكذلك قالوا في قوله سبحانه‏:‏ قال آيتك أن لا تكلم الناس ، أي‏:‏ تمنع الكلام، وأنت سوي، فتعلم بذلك أن الله قد وهب لك الولد‏.‏ فكان ذلك من فعل الله به علامة دالة على صحة ما بشره به من أمر يحيى عليه السلام‏.‏ وكذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوءٍ آيةً أخرى‏}‏ قال المفسرون‏:‏ كانت في قلب العصا آيةٌ دالة على وحدانية الله تعالى‏.‏ ثم أمره بضم يده وأعلمه أنها تخرج بيضاء من غير برص، وأن تلك آية أخرى دالة على ما دلت عليه الآية الأخرى‏.‏ فأصل الآية العلامة، فكأن الآية من كتاب الله علامةٌ يفضى منها إلى غيره، كأعلام الطريق المنصوبة للهداية‏.‏ قال الشاعر البسيط‏:‏

إذا مضى علمٌ منها بدا علم

ولما كانت الآية هي العلام الدالة على الشيء سموا شخص الشيء آيته، وقالوا‏:‏ تآييته على وزن فاعلته، إذا تعمدت آيته‏.‏ وكذلك آيات الله التي ضربها لعباده أمثال‏:‏ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وقال سبحانه‏:‏ وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للناس ‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏‏.‏ وقال تقدست أسماؤه‏:‏ لنريك من آياتنا الكبرى في أمثال هذه الآيات‏.‏ وكلها بمعنى الدلائل والعلامات الدالة على صنع اللطيف الخبير‏.‏ ولا وجه لما قاله من جماعة الحروف‏.‏ وإن قاله غيره، فهو قول غير مقبول‏.‏ انتهى ما ساقه أبو القاسم‏.‏ وقد اختلف في أصلها على ستة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن أصلها أيية كقصبة، فالقياس في إعلالها أياة، فتصح العين وتعل اللام، ولكن عكسوا شذوذاً فأعلوا الياء الأولى لتحركها وانفتاح ما قبلها دون الثانية‏.‏ وهذا قول الخليل‏.‏ الثاني‏:‏ أن أصلها أيية بسكون العين كحية فأعلت بقلب الياء الأولى اكتفاء بشطر العلة، وهو فتح ما قبلها فقط دون تحركها‏.‏ قاله الفراء، وعزي لسيبويه، واختاره ابن مالك وقال‏:‏ إنه أسهل الوجوه، لكونه ليس فيه إلا الاجتزاء بشطر العلة‏.‏ وإذا كانوا قد عولوا عليه فيما لم يجتمع فيه ياءان نحو‏:‏ طائي، وسمع‏:‏ اللهم تقبل تابتي وصامتي، ففيما اجتمع فيه ياءان أولى لأنه أثقل‏.‏ الثالث‏:‏ أن أصلها آيية كضاربة، حذفت العين استثقالاً لتوالي ياءين أولاهما مكسورة، ولذلك كانت أولى بالحذف من الثانية‏.‏ قال الكسائي‏:‏ ورد بأنه كان يلزم قلب الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة في قولهم‏:‏ آي‏.‏ الرابع‏:‏ أن أصلها أيية بضم الياء الأولى كسمرة، فقلبت العين ألفاً‏.‏ ورد بأنه كان يجب قلب الضمة كسرة‏.‏ الخامس‏:‏ أن أصلها أيية بكسر الياء الأولى كنبقة، فقلبت الياء الأولى ألفاً‏.‏ ورد بأن ما كان كذلك يجوز فيه الفك والإدغام، كحيي وحي‏.‏ السادس‏:‏ أن أصلها أيية كقصبة كالأول، إلا أنه أعلت الثانية على القياس، فصار أياة كحياة ونواة، ثم قدمت اللام إلى موضع العين فوزنها فلعة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والتسعون بعد الأربعمائة

وهو من شواهد س الوافر‏:‏

ألا من مبلغٌ عني تميم *** بآية ما يحبون الطعاما

على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر، كما في البيت، فإن ما مصدريةٌ تؤول مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بإضافة آية إليه‏.‏ وهذا خلاف مذهب سيبويه‏:‏ فإن ما زائدة، وآية مضافة إلى الفعل، ولا تأويل بمصدر صناعة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ما عند سيبويه لغو‏.‏ وقال المبرد‏:‏ ما والفعل مصدر‏.‏ وأنكر ما قاله سيبويه‏.‏ وقال ابن هشام في المغني في حذف ما المصدرية من الباب الخامس‏:‏ الصواب أن ما مصدرية‏.‏ وهذا يشعر أن مذهب سيبويه خطأ‏.‏ وليس هذا بصواب، فكان اللائق أن يقول‏:‏ والصحيح، ويقول‏:‏ وعندي، ووعند غيره‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه إضافة آية إلى يحبون، وما زائدة للتوكيد‏.‏ ويجوز أن تكون ما مع الفعل بتأويل المصدر، كإضافتها إلى سائر الأسماء‏.‏ انتهى‏.‏ ومفعول مبلغ محذوف، أي‏:‏ رسالة، كأنه لما قال‏:‏ من مبلغٌ تميماً عني رسالة قيل له‏:‏ بأي علامةٍ يعرفون‏؟‏ فقال‏:‏ بعلامة حبهم الطعام، وحرصهم عليه‏.‏ يريد‏:‏ إذا رأيت قوماً يحبون الطعام فاعلم أنهم تميم، فبلغهم رسالتي‏.‏ وقل الزمخشري في شرح أبيات سيبويه‏:‏ ما زائدة، أي‏:‏ بعلامة محبتكم الطعام، يشعر أن تحبون بالخطاب‏.‏ وليس كذلك، وإنما هو بالغيبة‏.‏ وروى صدره المبرد في الكامل‏:‏

ألا أبلغ لديك بني تميمٍ *** بآية ما يحبون الطعاما

قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل هذا من الغلط، إنما الرواية‏:‏

بآية ما بهم حب الطعام

وبعده الوافر‏:‏

أجارتها أسيد ثم أودت *** بذات الضرع منها والسنام

وليس أبو العباس المبرد بأول من غلط فيه من النحويين‏.‏ انتهى‏.‏ وعليه لا شاهد فيه‏.‏ وهذا يؤيد قول سيبويه، فإن ما موصولة وحب الطعام مبتدأ، والظرف قبله خبره، والجملة صلة الموصول‏.‏ وفي شرح شواهد المغني للسيوطي‏:‏ قال أبو محمد السيرافي‏:‏ وفي شعره، يعني يزيد بن عمرو بن الصعق‏:‏

ألا أبلغ لديك بني تميمٍ *** بآية ذكرهم حب الطعام

أجارتها أسيد ثم غارت *** بذات الضرع منه والسنام

وسببه أن بني عوف بن عمرو بن كلاب جاوروا بني أسيد بن عمرو بن تميم، فأجلوهم عن مواضعهم، فقال يزيد هذا الشعر‏.‏ وفي أيام العرب لأبي عبيدة‏:‏ نزل يزيد بن الصعق قريباً من بني أسيد بن عمرو بن تميم، واستجارهم لإبله، فأجاروه، ثم أغار عليه ناسٌ منهم فذهبوا بها، فقال يزيد هذين البيتين‏.‏ انتهى‏.‏ وعلى هذه الرواية أيضاً لا شاهد فيه، وحب منصوب بنزع الحافض، أي‏:‏ بآية ما يذكرون بحب الطعام‏.‏ وقول السيرافي، وفي شعره، يوهم أن هذا الشعر غير البيت الشاهد، وليس كذلك؛ فإن الشعر واحد والقافية مجرورة‏.‏ وقد رد عليه أوس بن غلفاء الهجيمي من قصيدة الوافر‏:‏

فإنك من هجاء بني تميمٍ *** كمزداد الغرام إلى الغرام

هم تركوك أسلح من حبارى *** رأت صقراً وأشرد من نعام

وهم ضربوك أم الرأس حتى *** بدت أم الشؤون من العظام

إذا يأسونها جشأت إليهم *** شرنبثة القوائم أم هام

قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل‏:‏ الذي ضرب يزيد على رأسه الحارث بن حصبة، وطارق بن حصبة - الشك من أبي عبيدة - ضربه يوم ذي نجب وأسره، فقال تميم لابن أبي جويرية التميمي، وكان نطاسياً، أي‏:‏ طبيباً‏:‏ انظر إليه فإن كنت ترجوه فلن نطلقه حتى يعطينا الرضا في فدائه‏.‏ فإن خفت عليه قنعنا منه بأدنى شيء‏.‏ فأعطاه يزيد شيئاً على أن يخبره بأنه يخاف عليه، فأخذوا منه شيئاً يسيراً، وأطلقوه‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ أجارتها أسيد ثم أوردت إلخ، أجاره‏:‏ التزم له ذمة المجاورة‏.‏ والضمير للإبل‏.‏ وأودت بذات الضرع، أي‏:‏ أهلكتها‏.‏ وروى بدله‏:‏ غارت، أي‏:‏ أتت الغور بها‏.‏ وإنما جعل حب الطعام آية لبني تميم يعرفون به لما كان من أمرهم في تحريق عمرو بن هند إياهم، ووفود البرجمي عليه لما شم رائحة المحرقين، فظنهم طعاماً يصنع، فقذف به إلى النار‏.‏ قال المبرد في الكامل‏:‏ وكان سبب ذلك أن أسعد بن المنذر، أخا عمرو ابن هند، كان مسترضعاً في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، وانصرف ذات يومٍ من صيدٍ وبه نبيذ، فعبث كما تعبث الملوك، فرماه رجلٌ من بني دارم بسهم فقتله، ففي ذلك يقول عمرو بن ملقط الطائي لعمرو ابن هند مجزوء الكامل‏:‏

فاقتل زرارة لا أرى *** في القوم أوفى من زرارة

فغزاهم عمرو بن هندٍ فقتلهم يوم القصيبة، ويوم أوارة‏.‏ وفي ذلك يقول الأعشى مجزوء الكامل‏:‏

وتكون في الشرف المو *** زي منقراً وبني زرارة

أبناء قومٍ قتلو *** يوم القصيبة والأواره

ثم أقسم عمرو بن هندٍ ليحرقن منهم مائة، فبذلك سمي محرقاً، فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذفهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعجوزٍ منهم لتكمل العدة، فلما أمر بها قالت العجوز‏:‏ ألا فتًى يفدي هذه العجوز بنفسه‏!‏ ثم قالت‏:‏ هيهات، صارت الفتيان حمما‏!‏‏.‏ ومر وافدٌ للبراجم فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك يتخذ طعاماً فعرج عليه، فأتي به، فقال له، من أنت‏؟‏ فقال‏:‏ أبيت اللعن، أنا وافد البراجم‏.‏ فقال عمرو‏:‏ إن الشقي وافد البراجم‏!‏، ثم أمر به فقذف في النار‏.‏ ففي ذلك يقول جريرٌ، يعير الفرزدق الكامل‏:‏

أين الذين بنار عمرٍو حرقو *** أم أين أسعد فيكم المسترضع

وقال الطرماح البسيط‏:‏

ودارمٌ قد قذقنا منهم مائةً *** في جاحم النار إذ ينزون بالجدد

ينزون بالمشتوى منها ويوقده *** عمرٌو ولولا شحوم القوم لم تقد

ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام، يعنى كطمع البرجمي في الأكل‏.‏ قال يزيد بن عمرو بن الصعق، أحد بني عمرو بن كلاب‏:‏

ألا أبلغ لديك بني تميمٍ *** بآية ما يحبون الطعاما

وقال آخر الوافر‏:‏

إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ *** فسرك أن يعيش فجئ بزاد

بخبزٍ وبلحمٍ وبتمرٍ *** والشيء الملفف في البجاد

تراه ينقب البطحاء حول *** ليأكل رأس لقمان بن عاد

انتهى ما أورده المبرد‏.‏ قال ابن رشيق في العمدة‏:‏ زعم أبو عبيدة أن من زعم أنه أحرقهم فقد أخطأ، فذكر له شعر الطرماح، فقال‏:‏ لا علم له بهذا‏.‏ واستشهد بقول جرير‏:‏

أين الذين بسيف عمرٍو قتلو *** أم أين أسعد فيكم المستوضع